
بقلم : د . ندى طارق
ضمن فاعليات مهرجان الفضاءات المتعددة دورة الأستاذ الدكتور أشرف زكى ، أقيمت أولى الأمسيات الفكرية، وضمن أوراقها البحثية قدم د . محمد جمال الدين ورقة بحثية بعنوان ملامح جروتوفسكى فى فضاءات عروض المسرح المصرى غير التقليدية، مسافر ليل لمحمود فؤاد صدقى نموذجاً ، تناول الباحث ثورة القرن العشرون في مجال المسرح والمناهج الإخراجية الفنية والتى لم يسبق لها مثيل، إذ ظهرت نظريات إخراجية كثيرة وتعددت مدارس فن التمثيل، بل تغيرت وتطورت أيضًا مفاهيم العمل المسرحي وتطبيقاته، ووصلت إلى نقطة كان يُعتقد فيها أن التجاوز عنها أمر صعب ومستحيل، ولعل أحد من أهم المناهج الإخراجية العالمية التي كان لها صدى كبيرًا في أروقة المسرح المعاصرة، منهج المخرج والمُنظّر (البولندي) (جيرزي جروتوفسكي)، صاحب نظرية (المسرح الفقير) .
يقول الباحث تعتبر إتجاهات مسرح (جروتوفسكي) قائمة على أن يصبح عمل الممثل هو الأساس، انطلاقًا من أن ماهيه المسرح تقتضي إبراز عنصر الممثل في مواجهة المتلقي، مع التمرد على الشكل المسرحى التقليدى (العلبة الإيطالى)، بالإضافة إلى محاولة إشراك الجمهور المتلقى فى العملية المسرحية، علاوة على خلق علاقة بين الممثل والجمهور، إضافة إلى الإهتمام بالصورة المسرحية والإتجاه إلى التجريب المسرحى، وعليه حاول الباحث الكشف عن ملامح إتجاهات (جروتوفسكى)، فى فضاءات المسرح المصرى غير التقليدية، من خلال التطبيق على عرض مسافر ليل، تأليف (صلاح عبد الصبور)، سينوغرافيا وإخراج (محمود فؤاد صدقى)، إنتاج قطاع شئون الإنتاج الثقافى – مركز الهناجر للفنون (2017)، واستمر عرضه حتى (2022)، وشارك فى العديد من المهرجانات والفاعليات، وحصد العديد من الجوائز .
يرى الباحث أن مسرح (صلاح عبد الصبور) مسرحًا سياسيًا خالصًا، إذ ناقش من خلاله قضايا القهر والظلم، وعلاقة المثقف بالسلطة وغير ذلك، حتى أن عناوين أعماله المسرحية ترتبط ارتباطًا كبيرًا فى دلالتها بالسلطة، كما ترتبط مسرحياته أيضًا بمسرح (العبث) و(الكوميديا) السوداء، وقد تأسس مسرح (العبث) أو (اللا معقول) فى محاولة للإصلاح، عن طريق النقد اللاذع فى حل القضايا، التى لم تجد إذعانًا بعد أن طرقت كل الوسائل التى سمعها من بيده القدرة على الحل .
تنتمى مسرحية (مسافر ليل) (صلاح عبد الصبور) كما تناولها الباحث إلى تلك النوعية من (الكوميديا) السوداء، وقد حاول (صلاح عبد الصبور) أن يظهر من تفاعلات الأفراد مع (السلطة) بكل أشكالها، محاولًا تسليط الضوء على احتدام الصراع بين الإنسان والمجتمع، الإنسان والسلطة وإغتراب الإنسان عن واقعه، كما وصف محنة الإنسان المعاصر ومحاولات إستلاب حريته، وذلك من خلال تداعيات مصادرة حريته وهويته، وقتل روح المبادرة والتحرر والتمرد فيه .
يرى الباحث أن (مسافر ليل) نص يتناول عدة أفكار فلسفية ومعنى الوجود الإنساني وجدواه، ويناقش قضايا واقعية حول الظلم والقهر والعدل والضعف، في إسقاط على علاقة الحاكم بالمحكوم من ناحية والصراع بين (المثقف) و(السلطة) من ناحية أخرى، في إطار يتأرجح ما بين (التراجيديا) و(الكوميديا)، كما يقوم على صراع عبثى بين (عامل التذاكر) / (السلطة) الظالمة، و(الراكب) / (المواطن) المظلوم، علاوة على شخصية (الراوي) الذي يفسر للجمهور تفاصيل المشهد، ويتركهم يفكرون فيه، ويعتبر رمزًا للجماهير الصامتة المنساقة في تيار الظلم .
تناول الباحث التعدد فى (مسافر ليل) فى مستويات التفسير والدلالات الفنية، بداية من المستوى النفسى الأشبه بالحلم، أو بالأحرى الكابوس الذى يعيشه (الراكب) منذ لحظة دخول (عامل التذاكر) فى الأحداث، مرورًا بمستوى الإسقاط على السلطات (الديكتاتورية) بمختلف أشكالها، وما تمارسه من قهر وإستلاب وتسلط على شعوبها، ووصولًا إلى أزمة الإنسان المجرد فى عبثية وجوده فى العالم.
لم يجعل (صلاح عبد الصبور) زمن أحداثه في الصباح، فاختيار الليل الذي يستدعي عند ذكره الخوف والوحشة والحزن ودلالة الظلم والقهر، فزاد باختياره للوقت كآبة منذ لحظة قراءة العنوان، الذي جعل من بين كلماته زمن السفر، وقد كان السفر فى ذلك الوقت أمرًا شاقًا، كما اختار (صلاح عبد الصبور) (القطار) مكانًا للأحداث، لما في (القطار) من مزايا الإنتقال في الزمن من ماض إلى حاضر ثم إلى مستقبل، هذه الأزمنة التي يمر بها (الراكب) تشبه بعضها بعضًا، إذ أن (القطار) / (الوطن) يسير، و(الراكب) / (المواطن) يتعرض كل لحظة للخوف، والبطش والتنكيل من كل (سلطة) / (عامل التذاكر) .
تعبر اللغة فى (مسافر ليل) عن حالة شعرية مكثفة، إذ بسطت المسرحية كلها، ووُزعت على ألسنة المتحاورين و(الراوي)، حيث جاءت لغة (عامل التذاكر) كإنعكاسًا ملائمًا له بما يمثله من سلطة، علاوة على وجود ألفاظًا لم تكن مألوفة من قبل فى الشعر، إلا أنها جاءت تحمل الدلالة التي أرادها (صلاح عبد الصبور)، مثل (عواميد السكة)، و(حديد الأرضية) و(يتركني في حالي)، بالإضافة إلى الحوار عند (عامل التذاكر) إذ أنه وفي معظمه يحمل إستخدامًا جوهريًا للصور الشعرية، لتشكيل المبالغة والمقارنة والإقناع العام .
يرى الباحث أن (علاء قوقه) استطاع إنطلاقًا من احترافيته وخبراته العريضة وحضوره الطاغى أن يجسد دور (عامل التذاكر / عشرى السترة) بجدارة، مهيمنًا على فضاء العرض بما فيه الجمهور، حيث فرض من خلال أدائه المتميز سلطته وتسلطه على الجميع، كما استطاع أن يعيد نحت الشخصية من جديد، وأسبغ عليها مقومات مختلفة من ذاته الإبداعية، خاصة أن تلك الشخصية تحمل بين ثناياها الكثير من المنحنيات والصعود والهبوط، والإنتقالات السريعة بين (الكوميديا) و(التراجيديا) و(السلطوية)، وهو ما يتطلب الكثير من التحولات النفسية في الأداء، وهو ما تمكن (علاء قوقه) من تقديمه بإحترافية شديدة، إذ أضفى على الشخصية سحرًا خاصًا وبريقًا أخاذًا .
كما يرى نجاح (حمدي عباس) فى تجسيد دور (الراكب)، إذ جاء الأداء ملائمًا لأبعاد الشخصية تمامًا، من خلال وعى (حمدى عباس) وإدراكه لشبكة العلاقات بين الشخصيات فى الفضاء المسرحى، علاوة على إستغلاله التباين الجسمانى بينه وبين (علاء قوقه / عامل التذاكر) لتقديم دلالات أدائية تخدم الدور، وتقدم مفاهيم جديدة بأذهان الجمهور .
يقول الباحث أن (جهاد أبو العينين) جسد دور (الراوى) بإقتدار، إذ استطاع عبر التلوين الصوتى التعبير عن الجمل والإنفعالات التى يلقيها على الجميع بشكل يحسب له، فظهر وكإنما يقدم معزوفة موسيقية يتنقل بسهولة وتناغم بين نغماتها، إذ تجول بأداء إنسيابى بين دلالات العرض السلطوية والإستبدادية والضعيفة .
كما قال جاءت ألحان وموسيقى (زاكو) لتكون عنصرًا فعالًا في العرض، وألقت بظلال شجن حزين على أجواء العرض المسرحي، كما أنها ساعدت في إبراز حركة القطار من خلال الصوت بصورة كبيرة، إذ لم تكن الألحان والموسيقى عرض (مسافر ليل) مجرد أداة تجميلية أو تأثيرية، بعيدًا عن إنشغالها بالإبداع الفني والجمالي، بل كانت أداة تسقط بظلالها على التشكل المعنوي والدلالي، ومكونة للمعنى الشامل لدراما العرض .
يرى الباحث أن لمسات (أبو بكر الشريف) واضحة في وضع الشخصيات داخل حزم ضوئية تساعدها على الكشف عما بداخلها، مع تعميم الإضاءة في القطار بأكمله في لحظات المكاشفة والتوريط، إذ لعبت الإضاءة دورًا محوريًا في (مسافر ليل) من خلال زوايا تركيز الضوء على الشخصيات المسرحية، كما أن استخدام اللونين (الأزرق) و(البنفسجي) المائل (للزرقة) جاء موفقًا من (أبو بكر الشريف)، إذ أنهما لونان باردان ساعدًا في تعميق الشعور بالظلام، نظرًا لكون زمن العرض يدور ليلًا، كما أنهما عكسا شعورًا بالخوف والرهبة، مما ترك أثره في نفس الجمهور، أيضًا الإستعانة باللون (الأحمر) فبالرغم من أنه يندرج ضمن الألوان الدافئة، إلا أنه يحمل دلالات نفسية كثيرة تتعلق بالموت والعنف والإستفزاز والإثارة، بالإضافة إلى ذلك برع (أبو بكر الشريف) فى تكوين عنصر الظل .
يرى الباحث أيضاً أن ملابس (أميرة صابر) جاءت موفقة تمامًا مع شخصية (عامل التذاكر)، وخاصة السترات المتعددة التى يرتديها، ويكشف عنها الواحدة تلو الأخرى لنكتشف جزءًا جديدًا مخيفًا من شخصيته الحقيقية بالتدريج، كما جاء تصميم ملابس كلا من (الراكب) وكذا (الراوى) موفق أيضًا، ومناسبة ودالة على شخصية كلا منهما الدرامية المسرحية، وخاصة ملابس (الراكب) والتى جاءت دالة على شخصيته الضعيفة الإنهزامية السلبية، كما جاءت الحلة التى ارتداها (الراوى) فى نهاية الأحداث لتدل على شخصيته ودوره الحقيقى فى الدراما المسرحية، كما ساهم (المكياج) التصحيحى للشخصيات فى تأكيد أبعاد الشخصيات الدرامية المجسدة على خشبة المسرح، وخاصة (مكياج) (عامل التذاكر) إذ عمل على إظهار ملامح الشر على وجهه بشاربه الكثيف وملامح وجهه الأقرب إلي السواد .
يرى الباحث كما ذكر فى ورقته البحثية أن المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) استطاع أن يقدم (مسافر ليل)، عبر رؤية (سينوغرافية) وإخراجية مغايرة لها مذاق خاص، إذ قدمها في شكل غير متعارف عليه، ابتعد فيه تمامًا عن العلبة (الإيطالية)، متمردًا على الشكل المسرحى التقليدى المتعارف عليه، مفجرًا للأطر المسرحية التقليدية، إذ نقل أحداث المسرحية إلى فضاء غير تقليدى، حيث قام ببناء تكوين خشبي كبير على هيئة (عربة) قطار في ساحة (الهناجر) بدار (الأوبرا) المصرية، وقُسمت (العربة) من الداخل إلى مربع تدور عليه أغلب الأحداث في المنتصف، ثم جانبين من مقاعد (الراكبين / المشاهدين)، إذ يتنقل الممثلون من موقعهم الرئيسي في المنتصف إلى جانبي القطار شمالًا وجنوبًا بين (الركاب)، والجلوس جوارهم أحيانًا، وذلك باعتبارهم جزءًا أصيلًا من العرض، بينما يستقر (الراوي) أغلب الوقت بين صفوف (المشاهدين / الركاب) .
يرى الباحث أن فكرة تحول (عربة) القطار فى مسرحية (مسافر ليل) إلي الفضاء المسرحى الذى تعرض عليه الأحداث، أحد أهم الأفكار لتقديم فضاءات مسرحية غير تقليدية، وهى رؤية (سينوغرافية) جديدة للمخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) لم يسبقه إليها أحد، استطاع من خلالها أن يجعل الجمهور يتفاعل مع (عامل التذاكر)، ويبدو مبهورًا بتطور الأحداث، من خلال تفاعل إيجابى سيكولوجيًا مع الظلم والقهر والتسلط وإنعكاستهم .
كما يرى الباحث أن المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) استطاع أن يمزج التعبيرية بالرمزية في بنية عبثية، تنبثق فيها الصور مستدعاة من ذاكرة الشخصية الرئيسة، ومتجسدة بصورة قاسية أمام عينيه، ومن ثم تجري أحداث العرض في أجواء (فانتازية) قاتمة، داخل (عربة) قطار مسرعة تشير برمزيتها إلى الحياة المتحركة دومًا للأمام، منغلقة على شخصياتها غير القادرة على الفرار منها .
استغل (محمود فؤاد صدقى) عنصر الظل استغلالًا جيدًا، إذ يصعد (عامل التذاكر) ليجلس في مقعد علوي، وهو يتحدث مع (الراكب) الذي يجلس في مقعد سفلي، فيبدو الظل من خارج القطار عبارة عن قدم (عامل التذاكر) تعلو رأس (الراكب)، وكأنه يدهسه بقدمه، وعليه فقد جاء الظل رمزيًا يحمل الكثير من دلالات التسلط والقهر، وإغتراب الإنسان،
وأن (محمود فؤاد صدقى) قام بتقديم رؤية رائعة لنهاية أحداث عرضه، إذ قام بإظلام (عربة) القطار من الداخل، مع الإيحاء بحركته من خلال الصوت والإضاءة (الصفراء)، التي مثلت (كشافات) الإنارة من خارج (عربة) القطار، ثم قام بتثبيت حركة الممثلين، وكأن الزمن قد توقف داخل (عربة) القطار رغم استمراره خارجه، فالقطار مازال يتحرك رغم كل شيء، في إشارة إلى أن الصراع أبدي حتى لو انتهى داخل (عربة) القطار .
تأسيسًا لما سبق يتضح للباحث الجرأة التي قدم بها المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى) رؤيته فى عرض (مسافر ليل)، من حيث طبيعة الفضاء المسرحى غير التقليدى لأحداث العرض للإيهام بحداثته، فى إطار من العبثية ذات العمق التعبيري المعبر عن الشخصية المتفردة، وأحلامها وكوابيسها ورعبها من العالم، فضلًا عن فقدان المعنى، وذلك من خلال تفكك البناء وتفتت الشخصية الدرامية، لذا قدم (محمود فؤاد صدقى) عرضه بصورة (ساتيرية) تسخر من شخصياته التي تعيش عالمًا غير ممنطق، من خلال طرح قيم مجردة تتعاطى مع النقد السياسي، عبر رصد القهر الإنساني الذي يعانيه (المواطن) من (السلطة) على اختلاف أشكالها وأنواعها، وهو ما نجح (محمود فؤاد صدقى) في تقديمه عبر رؤيته (السينوغرافية) الإخراجية .
تحمل رؤية (محمود فؤاد صدقى) الكثير من ملامح إتجاهات (جروتوفسكي)، بل أن العرض يمثل تطبيقًا حيًا لإتجاهات (جروتوفسكي)، إذ اعتمد (محمود فؤاد صدقى) على بناء الصورة، وتكوينات الديكور من خلال المنظر الواحد (عربة) القطار، مع الإنسجام بانسيابية فى حركة الممثلين بداخلها من ناحية، ومع أماكن جلوس (الجمهور) على مقاعد (الركاب) من ناحية أخرى، وهو ما منح تناغم وحرية فى الفضاء المسرحى (عربة) القطار، إذ تمرد على خشبة العلبة (الإيطالية) التقليدية، وقدم عرضه فى (عربة) قطار قام بتصميمها كفضاء مسرحى يقدم من خلاله عرضه (مسافر ليل)، كما جعل (الركاب / الجمهور) داخل الأحداث الدرامية كمتلقين إيجابيين مشاركين فى الأحداث، بعيدًا عن أماكنهم التقليدية المعتادة فى قاعات المسارح التقليدية، مما أوجد حميمية وتفاعل بين (الركاب / الجمهور) وبين الممثلين، وهو ما قامت عليه فلسفة (جروتوفسكى) والتى تمردت على الشكل المسرحى التقليدى، وعلى التحديد التقليدى لأماكن جلوس الجمهور، وأيضًا المكان التقليدي للتمثيل، مع خلق حميمية بين (الجمهور) والممثلين، وتحويل (الجمهور) من حالة التلقى السلبى، إلى حالة التلقى الإيجابى، بوصفه مشاركًا فى الأحداث، بالإضافة لتكوين صورة مسرحية تجريبية مغايرة لما هو مألوف مسرحيًا .
لذا يرى الباحث أن (محمود فؤاد صدقى) نجح عبر رؤيته واختياره لعناصره فى إيجاد أداء تمثيلى متميز لمجموعة الممثلين وحضورهم الطاغى، بل وهيمنة عنصر التمثيل على فضاء العرض المسرحى، وعليه أصبح حضور باقى عناصر العرض ثانويًا ومكملًا لتكوين الصورة المسرحية، كما أعاد (محمود فؤاد صدقى) كما ذكر الباحث من خلال رؤيته قراءة العلاقات الإيقونية فى (مسافر ليل)، ودمجها مع كل مفردات العرض المسرحي، مع الإهتمام بأهم تلك المفردات وهو أجساد الممثلين، وأصواتهم، وتوظيف الطاقات الكامنة داخل هؤلاء الممثلين من خلال تفعيلها، من خلال الطاقة الجسمانية والجسدية والبدنية، أي كيفية تجسيد الأفكار من خلال الحركة والفعل، ومن ثم تكوين علاقات جديدة مع هذه المفردات، تتحرك في حدود وفضاء المدلول عن الدال، عن طريق سلطة التأويل التى تركتها رؤية (محمود فؤاد صدقى) لفكر (الركاب / الجمهور)، من خلال الإنشاء العلاماتي للصورة المسرحية التجريبية، التى حملت دلالات تأويلية مكتنزة بالمعاني .
وعليه ذكر الباحث أن المخرج (السينوغراف) (محمود فؤاد صدقى)نجح فى عمل تضافر للغة الجسد ولغة الحركة لدى الممثلين، مع العناية بأدائهم الصوتي، إذ استطاع الأداء التمثيلى الصوتى فى هذا العرض خلق فضاءه البصري والجسدي، حاملًا العديد من الدلالات التى تبتعد كثيرًا عن المفهوم اللفظي للصوت المعهود، وتقترب كثيرًا من كونها لغة دالة، إذ ذاب الأداء التمثيلى الصوتى فى عرض (مسافر ليل) مع الأداء الجسدي، لتصبح الإشارة الصوتية هي محور الفعل في العرض .
كما يرى الباحث أن (محمود فؤاد صدقى) قدم فى رؤيته لغة الصورة بمكوناتها، والتي شكل فيها التمثيل والتعبير الجسدي والصوتى العمود الفقري للعرض، كما أن العرض في مجمله يحمل خاصية أسلوبية، تركز على تحميل العرض بمنظومة شفرات فنية ترميزية تقدم مجموعة من الدلالات، فى تطبيق واضح مع نظرية المحاكاة (الأفلاطونية)، التي تفترض أن الممثل إنما يحاكي مستنسخ الصورة الأصلية أو ظلها، وعليه يرى الباحث أن المخرج السينوغراف محمود فؤاد صدقى استطاع تقديم (مسرح الصورة)، والذى يرتكز على لغة مسرحية محورها لغة الجسد من حركة وصوت، لذا يمكن القول كما ذكر الباحث أن (محمود فؤاد صدقى) فى (مسافر ليل) استطاع أن يقدم العديد من ملامح إتجاهات مسرح (جروتوفسكى) .