تحت ضوء القمر… حين يتكلم السكون وتهمس القلوب بالإيمان والحب

 

محمود سعيد برغش

في ليلةٍ هادئةٍ تغلّفها الرقة والسكينة، جلستُ تحت السماء، أتأمل وجه القمر المضيء، كأنه مرآةٌ تعكس ما تخفيه القلوب من وجعٍ وحنين.
نسيم الليل يداعب الوجوه كلمسة أمٍّ تُهدهد طفلها، وصوت الأشجار الهادئة ينساب كأنها تسجد لله مع الكون في خشوعٍ لا يُرى.
هناك، في هذا السكون، أدركتُ أن الليل ليس ظلمة، بل حضنٌ من نورٍ يُنادي الأرواح لتقترب من خالقها وتستريح.

 

القمر ليس مجرد جرمٍ معلقٍ في السماء، بل هو آية من آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته.
قال الله تعالى:

“وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ”
(يس: 39)

وقال أيضًا:

“وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ”
(فصلت: 37)

وفي اختلاف منازل القمر وحركته المنتظمة، يذكّرنا الله بنظام هذا الكون ودقته، وبأن كل شيء يسير بتقديرٍ من حكمةٍ إلهية.
قال تعالى أيضًا:

“إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ”
(آل عمران: 190)

هؤلاء هم أهل البصائر الذين إذا رأوا القمر والليل، تذكّروا الله لا الجمال فقط، لأنهم علموا أن الجمال نفسه عبادة إذا قاد إلى التفكر في عظمة الخالق.

قال النبي ﷺ:

“أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”
(رواه مسلم)

وفي الليل يجتمع السكون والسكينة، وتكون الأرض أهدأ، والقلوب أقرب، والنجوم شهودًا على من يناجي الله في خلوته.
قال ابن عباس رضي الله عنه:

“التفكر في خلق الله ساعة، خيرٌ من قيام ليلة.”

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

“حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وتأملوا خلق الله، فإن في ذلك حياةً للقلوب.”

وقال الحسن البصري رحمه الله:

“ما علمتُ عبادةً أقرب إلى القلب من التفكر في خلق الله عز وجل.”

وقال الإمام الغزالي رحمه الله:

“التفكر مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكةٌ تصطاد بها المعاني من بحر الغيب.”

فالليل مدرسةٌ عظيمة، يعلّمك أن السكون عبادة، وأن الصمت كلام، وأن النظر في خلق الله نوعٌ من الذكر لا يقلّ عن التسبيح.

 

حين يختفي ضجيج النهار، وتخفت الأصوات، ويبدأ القمر في إضاءة السماء،
تشعر أن الله يفتح لك نافذة إلى ذاتك.
هناك، بعيدًا عن صخب الناس، تبدأ تسمع أنين روحك، ونداء فطرتك الأولى.
تذكّرك الآية الكريمة:

“هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا”
(يونس: 67)

فما أجمل أن تسكن الجوارح، لتصحو القلوب!
ولذلك كان الليل وقت الصفاء والرجوع، قال الله تعالى:

“تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا”
(السجدة: 16)

ومن هنا كان قيام الليل غذاء القلوب، ودواء العاشقين لله.
قال سفيان الثوري رحمه الله:

“إذا أقبل الليلُ ذكرتُ ذنوبي، فأنظر إلى السماء وأقول: يا رب، كم من ذنبٍ غفرته لي في ليلٍ كهذا.”

 

ليس الحبّ بعيدًا عن الإيمان، فالقلب المؤمن يعرف كيف يحبّ في نقاء،
يحبّ الله في كل شيءٍ جميل، ويرى في القمر وجهًا من رحمته، وفي الهدوء حديثًا عن لطفه.
القمر يشبه القلب العاشق: لا يملك نوره من نفسه، بل يضيء بقدر ما يستمدّ من الشمس،
كما يضيء قلب المؤمن بقدر ما يستمدّ من نور ربّه.

في لحظات التأمل الهادئة،
قد يذكّرك القمر بمن تحبّ،
بعيونٍ كانت تراك بنورٍ يشبهه،
أو بابتسامةٍ أضاءت حياتك كما يضيء وجهه الليل الطويل.
وهنا تمتزج الرومانسية بالإيمان،
فالحبّ الحقيقي هو ذاك الذي يقودك إلى الله لا إلى الغفلة عنه.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

“القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير.”
ومن الخير أن يمتلئ قلبك حبًّا طاهرًا يذكّرك بالله كلما نظرت إلى جمال خلقه.

 

القمر يتغير، لكنه لا يختفي.
يغيب ليعود، ويضعف ليكتمل.
وكذلك الإنسان، تضعفه الأيام لكنه يعود أقوى بالإيمان.
قال تعالى:

“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”
(النور: 35)

ذلك النور الإلهي هو ما يحيي القلوب كما يضيء القمر السماء.
الشرع الشريف علّمنا أن النظر في خلق الله والتأمل فيه عبادة،
وأن الجمال إذا قاد إلى التفكر صار من العبادة لا من الغفلة.

قال الإمام الشافعي رحمه الله:

“من نظر في ملكوت الله انشرح صدره، ومن أعرض عنه ضاق قلبه.”

 

هكذا علّمني القمر، أن الجمال ليس زينةً بل رسالة.
أن الصمت أبلغ من الكلام، وأن الليل وطن الأرواح التي تبحث عن خالقها ومحبّيها.
في ضوء القمر اجتمع الإيمان والرومانسية، السكون والفكر، العشق والعبادة.
وفيه أدركت أن الإنسان خُلق ليحبّ، وليتفكر، وليعرف أن الله أقرب إليه من كل هذا النور.

فإذا ضاقت عليك الدنيا،
ارفع رأسك نحو القمر وقل في يقينٍ وحنينٍ:

“رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”
(آل عمران: 191)

عندها فقط ستفهم أن القمر ليس بعيدًا،
بل هو مرآةٌ لقلبٍ عرف الطريق إلى الله،
وتعلّم كيف يُحبّ في النور، حتى وإن عاش في الظلام.

 

للمزيد من الأخبار تابع صفحتنا على الفيسبوك عبر هذا الرابط

Related Posts

أميرة عبادي تتوّج بلقب “ملكة جمال العرب فلسطين 2025” وتمثل قارة آسيا بالقاهرة

  كتب: أحمد زينهم حصلت الشابة الفلسطينية أميرة عبادي على لقب “ملكة جمال العرب فلسطين 2025” خلال الحفل الرسمي الذي أُقيم في العاصمة المصرية القاهرة، وذلك ضمن فعاليات مؤسسة ملكة…

وزير الإسكان يتابع تطوير المدن الجديدة

  كتب : مصطفى حبيشي   خطوة تعكس المتابعة الدقيقة لمنظومة التنمية العمرانية بمصر، عقد المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، اجتماعا موسعا مع مسؤولي قطاع التنمية والإنشاءات…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *