سوريا بعد السقوط: قراءة في إرث السلطة والذاكرة

كتب :اسامه الكومه 

تحقيق صحفي سوري مستقل _ اسامه الكومه_ كيف عاش السوريون عقودًا بين الخوف والرمز، وكيف يسعون اليوم لاستعادة الدولة ومعنى الوطن.

سقط آخر تمثال للرئيس في دمشق يوم الثامن من ديسمبر 2024، في لحظة رمزية فتحت الباب واسعاً لإعادة التفكير في ما عاشه السوريون طوال نصف قرن. لم يكن هذا الحدث مجرد إزالة لتمثال، بل مثل نهاية مرحلة هيمنت فيها صورة القائد على كل جانب من الحياة اليومية: المدارس، المساجد، الشوارع، والعملات الورقية.
خلال عقود الحكم، تداخلت الدولة مع النظام، واختلطت الوطنية بالولاء للقيادة. هذه البيئة دفعت المواطنين للعيش بين الخوف والمراقبة، حيث اضطر كثيرون إلى المسايرة العلنية حفاظًا على سلامتهم وسلامة أسرهم، دون أن يعكس ذلك بالضرورة قناعتهم الداخلية.
مع إزالة الرموز الرسمية، بدأت اليوم محاولات مكثفة لإعادة اكتشاف الوطن، وتحرير الفضاء العام من تأثيرات سياسات وسيطرة كان لها أثر عميق على الحياة اليومية والهوية الجمعية.

في المدارس السورية، كان اليوم الدراسي يحمل أبعاداً سياسية واضحة. وفقاً لشهادات معلمين سابقين، كانت المناهج الدراسية وهياكل الأنشطة تُصمَّم لربط الولاء للوطن بالولاء للشخص.
يقول أ. محمد خير الله ، معلم متقاعد من ريف دمشق: “كان الواجب السياسي يلزمنا بالمشاركة في فعاليات الولاء الطلائعي كل خميس.

كنت أدرك أن الطلاب والمعلمين يعيشون وضعًا مزدوجًا؛ الخوف يفرض عليهم الصمت والمسايرة إذا لم يكونوا مقتنعين، والواجب يفرض عليهم ترديد الشعارات.
كانت المدرسة مسرحًا للتعليم السياسي أكثر منه للتعليم الأكاديمي.”
بعد 8 ديسمبر 2024، بدأت مساعي لإعادة صياغة التعليم.
وزارة التربية أعلنت عن خطط لإزالة الصور والرموز من المدارس واستبدال المحتوى بمناهج تشجع على التفكير المستقل والولاء للمؤسسات الوطنية، لا للأفراد.
التحدي الأكبر يكمن في تأهيل المعلمين الذين عاشوا عقوداً تحت هذا النظام السياسي.

شكل حزب البعث لعقود شبكة واسعة امتدت عبر منظمات الطلائع والشباب. الانتماء لهذه الشبكات كان يُنظر إليه، في كثير من الأحيان، كشرط غير معلن للوصول إلى فرص الدراسة والعمل الجيدة.
يوضح د.عيسى الدواسرة ، خبير في الاقتصاد السياسي السوري، أن “السيطرة لم تكن أمنية فقط، بل اقتصادية واجتماعية.
الشركات الكبرى والمشاريع الحيوية كانت مركزة بأيدي رجال أعمال مرتبطين بالقيادة، مما خلق اقتصاداً معتمداً على الولاء وليس الكفاءة.

المشاركة في النشاطات الرسمية كانت ضرورية للحفاظ على فرص العمل، خاصة أن أي رفض قد يؤدي إلى عواقب مباشرة أو غير مباشرة.”
ميدانياً، بدأت مقرات الحزب تتحول تدريجيًا إلى مراكز مدنية، بعضها أصبح مكتبات أو معارض ثقافية، في خطوة تهدف إلى فصل الفضاء الاجتماعي عن الولاء السياسي الإجباري.

لم تكن المؤسسات الدينية بعيدة عن المجال السياسي.
وفقاً لعدد من الأئمة والمشايخ، كانت خطب الجمعة غالباً تُختتم بالدعاء الرسمي للقيادة.
هذه الممارسة أصبحت جزءًا روتينيًا من العبادة الرسمية.
كثير من رجال الدين والمؤسسات الدينية اختاروا مسايرة الخطاب العام حفاظاً على سلامتهم وأمن مؤسساتهم.
اليوم، يشهد المنبر الديني محاولات للعودة إلى وظيفته الأساسية في التوجيه الأخلاقي والاجتماعي، بعيداً عن أي خطاب سياسي مباشر أو قسري.
على صعيد الإعلام، عملت القنوات الرسمية كأداة رئيسية في تشكيل الرأي العام وتوجيهه نحو تبجيل القائد. الصحفيون الذين حاولوا الابتعاد عن الخط الرسمي واجهوا المراقبة، فاختار معظمهم التزام الصمت أو المسايرة لتفادي المخاطر.
بعد سقوط الرموز، ظهرت وسائل إعلام مستقلة جديدة تقدم تغطية أكثر توازناً، لكنها ما تزال تواجه تحديين رئيسيين: بناء الثقة لدى جمهور عاش عقوداً في ظل إعلام موحد، وتوفير التمويل المستدام والآمن.

كانت المدينة السورية مليئة بالرموز البصرية، من صور الرئيسين على النقود الورقية إلى التماثيل في الساحات واللافتات الرسمية.
هذه الرموز خدمت فرضية السيطرة على الفضاء العام.

ميدانياً، تم إزالة العديد من هذه الرموز.
أفاد مسؤول في الإدارة المحلية بدمشق أن “هناك خططاً لإنشاء مكتبات أو متنزهات عامة في الأماكن التي كانت مخصصة لتماثيل القيادة، بهدف تحويلها تدريجياً إلى مساحات تعكس اهتمامات وثقافة المواطنين، لا صورة شخص واحد.”

آثار الخوف والاعتقال والتقييد تظل ممتدة في الوعي الجمعي السوري. الدكتورة هناء عيسى، أخصائية في علم النفس الاجتماعي، تحذر: “إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة تتطلب وقتاً طويلاً.
الناس اعتادت على إخفاء مشاعرها وآرائها، وهذا السلوك لا يتغير بين ليلة وضحاها، الخوف المستمر يُورث عبر الأجيال.”

أمام السوريين اليوم تحديات جسيمة لإعادة بناء دولة المؤسسات، تفصل فيها السلطات وتخضع للقوانين، بعيداً عن سيطرة الفرد. الأولويات تتضمن:
1- إعادة تشكيل الجيش: ليكون مؤسسة وطنية بعيدة عن الولاءات الشخصية.
2- استقلال القضاء: وضمان عدم تسييس الأحكام.
3- حرية الإعلام: وتوفير بيئة آمنة للصحافة المستقلة.
4- تفكيك شبكات الاحتكار: وإعادة الموارد العامة إلى الدولة.
سقوط الرموز السياسية في 8 ديسمبر 2024 لم ينهي تجربة الخوف والقيود، لكنه بدأ مرحلة انتقالية.
إنها فرصة لمواجهة الماضي، والعمل على بناء وطن يمكن للمواطن أن يحبه ويمارس حقوقه فيه دون وسيط قسري بين الفرد والدولة. الطريق نحو دولة مؤسساتية لن يكون سهلاً، لكنه يمثل خطوة أولى نحو استعادة معنى الوطنية.

 

 

للمزيد من الأخبار تابع صفحتنا على الفيسبوك عبر هذا الرابط

Related Posts

105 مليون جنيه تدعم أجهزة الأشعة بالدقهلية.. ومحافظ الدقهلية: صحة المواطن أولوية

الصحفي د. محمد الطربيلي يكتب:   أكد اللواء طارق مرزوق محافظ الدقهلية أن دعم المنظومة الصحية بالمحافظة مستمر، وأن صحة المواطن تأتي على رأس أولويات العمل التنفيذي، مشيرًا إلى أن…

أكتوبر المجيد… ذكرى النصر التي تُعلِّمنا أن نستعد دائمًا

الصحفي د. محمد الطربيلي يكتب   تمر اثنان وخمسون عامًا على ملحمة العبور، على يومٍ خطَّ فيه المصريون أروع فصول البطولة والفداء، واستعادوا به كرامة وطنٍ بكامله كان جريحًا، فأعاده…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *