✍️ بقلم: [اسامه الكومه]
في مشهد من أعظم مشاهد التربية النبوية، وفي لحظة تمثل إحدى الصور العميقة للمعنى القرآني، تجلى موقف عظيم للنبي محمد ﷺ وهو يشرح للصحابة معنى قوله تعالى:
وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”
(سورة محمد – الآية 38)
هذه الآية الكريمة تحمل إنذارًا ربانيًا واضحًا: أن الله سبحانه وتعالى لا يتوقف دينه على قوم بعينهم، ولا يرتبط الإيمان بجنس أو نسب أو قبيلة. فمن أعرض وتولّى، فإن الله قادر على استبداله بمن هم خير منه، وأشد تمسكًا بالحق، وأكثر صدقًا في نصرة هذا الدين.
في تفسير هذه الآية، روى بعض المحدثين أن النبي ﷺ – حين نزلت – أشار إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، ذلك الصحابي الذي قطع آلاف الأميال باحثًا عن الحق، وتخلّى عن كل ما يملك في سبيل الهداية، فقال:
لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء.
وروى البخاري ومسلم هذا المعنى في أحاديث صحيحة عن النبي ﷺ:
لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من فارس.
وفي بعض الروايات الأخرى، أن النبي ﷺ وضع يده على سلمان عند ذكر الآية، مشيرًا إلى أن الإيمان قد تصل إليه أقوام من غير العرب – من بلاد فارس تحديدًا – ممن سيحملون راية الدين بقوة.
كان سلمان الفارسي رضي الله عنه أنموذجًا حيًا لتحقيق هذا المعنى.
فقد جاء من بلاد فارس، واعتنق الإسلام عن قناعة وبحث طويل، حتى قال عنه النبي ﷺ:
سلمان منا أهل البيت.
ولم تتوقف الرسالة عند سلمان وحده، بل تحققت نبوءة النبي ﷺ على مدى القرون التالية. فقد خرج من بلاد فارس عدد من أعظم علماء الإسلام الذين حفظوا لنا الدين، ودوّنوا السنن، وشرحوا العقيدة، وعلى أيديهم انتشر الإسلام في الآفاق. من هؤلاء:
الإمام البخاري، صاحب “الجامع الصحيح”.
الإمام مسلم، مؤلف “صحيح مسلم”.
المفسر الكبير الطبري.
الفقيه الأصولي الرازي.
المحدث النسائي، وغيرهم.
أراد النبي ﷺ أن يزرع في قلوب الصحابة – وكل من يأتي بعدهم – مبدأً لا يتغير:
أن الإسلام ليس دين عرق أو نسب أو قومية.
بل هو دين عالمي، منفتح على جميع الشعوب، ويحتضن كل من جاءه بقلب سليم.
لقد حملت الآية الكريمة والحديث النبوي معها رسالة خالدة لكل الأجيال: أن الدين لا يورث بالنسب، وإنما يُنال بالإيمان والعمل. ومن تولى عن نصرة الدين، فإن الله سيستبدله بمن هو أصدق إيمانًا وأكثر تضحية، {ثم لا يكونوا أمثالكم}.
اليوم.. هل نحن من القوم الذين ينصرون الدين؟
في ظل ما نعيشه من تحديات ثقافية وفكرية ودعوية، تبقى هذه الآية والحديث النبوي دعوة مفتوحة للتجديد الذاتي والمحاسبة:
هل نحن مؤهلون لحمل أمانة هذا الدين؟
أم أننا من الذين سيتولاهم الله ويستبدل بهم غيرهم؟
إنها دعوة لإخلاص النية، والعمل الجاد، والانتماء الحقيقي للإسلام، لا بالكلمات، بل بالفعل والإصلاح والعمل والدعوة.
سلمان الفارسي لم يكن عربيًا، لكنه دخل التاريخ الإسلامي من أوسع أبوابه.
وغيره كثيرون، من شرق الأرض وغربها، حملوا الدين وأعلوا رايته.
فمن يحملها اليوم؟