
بقلم : يوحنا عزمي
في مشهد يعيد إلى الأذهان ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين تم تقاسم ألمانيا بين الشرق والغرب ، تلوح في الأفق ملامح مشروع تقسيمي جديد ، هذه المرة في سوريا ، لكن بصيغة أكثر طائفية ، وأكثر تعقيداً. إسمها : “جمهورية سوريا الغربية”.
لا تأتي هذه التسريبات من محلل هاوٍ أو إشاعة عابرة ، بل من شخصية بارزة في أروقة صنع القرار الأمريكي : وليد فارس ، المستشار السياسي السابق لحملتي ميت رومني ودونالد ترامب، وأحد أبرز وجوه اليمين الماروني اللبناني في الولايات المتحدة.
فارس ، الذي يُعد من دعاة الفيدرالية في لبنان ومعارضي تعريبه، كتب مؤخراً مقالاً خطيراً كشف فيه عن مطالب أمريكية موجهة مباشرة لأبو محمد الجولاني ، زعيم “هيئة تحرير الشام”، كجزء من صفقة كبرى تعترف بموجبها واشنطن بدولة سوريا ، لكن ليس بالشكل الذي نعرفه.
خارطة التقسيم : سوريا لم تعد واحدة
المطالب الأمريكية واضحة وصادمة :
انسحاب “تحرير الشام” من مناطق العلويين والمسيحيين
في الساحل السوري.
الانسحاب من الجنوب الدرزي.
الخروج من مناطق “قسد” شرقاً.
بعبارة أخرى ، أمريكا تسعى لفصل ما تبقى من سوريا على أسس طائفية ، وفق هندسة جيوسياسية مدروسة :
“جمهورية سوريا الغربية” للعلويين ، المسيحيين ، والإسماعيليين،
جمهورية درزية جنوبية ، وكيان كردي في الشرق.
مشروع وليد فارس ليس وليد اللحظة ، بل استكمال لخريطة الانتداب الفرنسي التي قُسم فيها الساحل السوري إلى كيانات طائفية مشابهة. الجديد اليوم أن المشروع لا يُرسم بأدوات سياسية فقط ، بل عبر حروب وظيفية تتولى تنفيذها جماعات الإسلام السياسي ، والتي يبدو أنها تؤدي دورها في إشعال الحريق ثم الانسحاب عند لحظة التفاوض.
لبنان رقم 2
“جمهورية سوريا الغربية” ستكون نسخة موسعة من لبنان، بمحاصصة طائفية ثلاثية بين علويين، مسيحيين، وإسماعيليين
أو شيعة ، وبرعاية مباشرة من روسيا وأمريكا. هكذا يتم تكريس الكيانات الهشة التي لا تملك مقومات دولة ، لكنها تخدم وظيفة واحدة : منع ظهور قوة إقليمية موحدة في الهلال الخصيب.
منذ القرن التاسع عشر ، والهدف الغربي واحد : قطع الطريق التاريخي بين مصر والأناضول. من أيام تحتمس الثالث إلى إبراهيم باشا ، وحتى الجيش المصري في عهد الأيوبيين والمماليك ، كان الامتداد نحو الشام والأناضول حقيقة تاريخية. لكن الغرب لا يريد لها أن تتكرر، لذلك أنشأ إسرائيل، والأردن، ولبنان، ولاحقاً الجمهورية العلوية الجديدة.
إيران انتهت .. وتركيا على الطاولة
أما إيران ، فقد استُنفد دورها. المشروع الإقليمي الذي بدأته انتهى عملياً، والمسألة أصبحت مسألة وقت قبل تفكك بلاد ما بين النهرين. كما حدث في الشام ، وكما يُخطط للعراق بتقسيمه إلى كيان شيعي وآخر سني وربما ثالث كردي.
وما بعد إيران ، ستكون تركيا الهدف القادم. مشروعا أرمينيا الكبرى واليونان الكبرى يلوحان في الأفق ، في ظل تراجع النفوذ التركي وخفوت نجم أنقرة على وقع حرب أوكرانيا وحصار البحر الأسود.
خريطة الشرق تعاد كتابتها
ما يجري اليوم ليس سيناريو خيالي ، بل إعادة صياغة لخريطة الشرق الأوسط على الطاولة الروسية – الأمريكية. كما حدث في أوكرانيا ، حيث تتجه نحو انقسام فعلي بين شرق روسي وغرب أمريكي ، تسير سوريا والعراق في المسار نفسه.
من لا يصدق الآن ، سيصدق لاحقاً. كما سخر كثيرون من فكرة تقسيم سوريا عام 2010، وسقطوا في دهشة حين تحقق أو حين قيل إن إيران ستنتهي ، وظنها البعض قوة لا تُقهر.
لكن الحقيقة المؤلمة أن الشرق الأوسط اليوم يُعاد تركيبه حجراً حجراً ، طائفة بطائفة ، بصفقة بين خصمين قديمين : واشنطن وموسكو.