
بقلم : يوحنا عزمي
أتصور ان السؤال الذي بات يستحوذ علي إهتمام العالم ويشغله الآن هو : إلي اين يتجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالعالم كله ، وليس بالشرق الأوسط وحده ، بتفجيره وتصعيده لكل تلك التوترات الدولية وبا يمكن ان يحولها إلي صراعات محتدمة وتنذر بإخطار وتداعيات أمنية فادحة في كل مكان؟
هذا بالطبع ليس السلام الدولي الذي بشر العالم به ، وبني عليه دعايته
في معركة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة وقدم نفسه فيها كما لو
أنه يمسك بيده بمفاتيح السلام والحرب في العالم وانه يقدر علي ما لم يقدر عليه غيره من الرؤساء الأمريكيين السابقين.
وظل العالم يحبس أنفاسه في إنتظار وصوله إلي البيت الأبيض وتسلمه مهامه الرئاسية رسميا لتنفيذ وعوده الإنتخابية التي سرعان ما تبين أنها لم تكن اكثر من مزايدات انتخابية علي خصومه الديموقراطيين ، وان السلام الذي كان يعنيه كان مختلفا تماما عما تصورناه وتوقعناه منه كرئيس أمريكي قوي وواثق من نفسه وان السلام الدولي هو احد همومه وشواغله المهمة وان له الأولوية علي أجندته الدولية.
والآن بدأ العالم يدرك ويقتنع من واقع ما جري طيلة الشهرين الماضيين، ان الرئيس ترامب لا يملك اي أفكار محددة او خطط واستراتيجيات مدروسة وجاهزة لتحقيق السلام الدولي ولارساء أسسه ودعائمه الجديدة وبما يحقق نقلة نوعية جذرية في أداء النظام الدولي وتخليصه من أزماته التي اوصلته إلي هذا الحال البائس من العجز والفشل.
غابت هذه المعاني كلها من طروحاته وتصريحاته .. ولم يعد العالم يسمع
منه الا ترديده المستمر لشعاراته حول عظمة أمريكا التي جاء ليعيدها اليها، وان مصالحها وأمنها لهما الأولوية في خططه وسياساته علي كل ما عداهما من أهداف.. وهي مفاهيم ضيقة ولا تتسق مع طبيعة القضية الدولية الكبيرة التي وعد بتكريس جهوده لها للتقدم بالعالم نحو مستقبل اكثر امنا وسلاما واستقرارا.
السلام بالقوة او السلام المستند إلي القوة كما يردد دائما ، لا يمكن ان
يرسي أسسا راسخة ومتينة لسلم عالمي حقيقي ومستقر، وانما هو اقرب
لأن يكون سلاما دوليا متحيزا يعمل لصالح الاقوياء علي حساب الضعفاء. سلام الصوت الأعلي فيه للاقوي ، والحق فيه تقرره القوة بعيدا عن معايير العدالة او حكم القانون .. وفي ظله ، فإن القوة هي التي تفرض الأمر الواقع مهما كان فيه من ظلم فادح لحقوق ومصالح الضعفاء .. وها هي غزة تقدم النموذج والمثال.
لقد أربك الرئيس ترامب العالم بسياساته التجارية الحمائية التي هدم
بها الكثير من الأسس والقواعد التي قامت عليها فلسفة العولمة ومفاهيم الاعتماد الدولي المتبادل وغيرها من المفاهيم الدولية الجديدة التي روجها الأمريكيون وبالغوا في تقديمهم لها وفي تبشيرهم بها في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وانحسار حدة الصراعات الأيديولوجية وانتصار قيم الديموقراطية الليبرالية علي الشيوعيه والدكتاتورية ، الخ.
والآن جاء الرئيس ترامب ليزيد جذوة التوترات والصراعات والانقسامات الدولية اشتعالا وليدخل العالم معه في حرب باردة جديدة قد تكون اسوأ بمراحل من الحرب الباردة القديمة .. فهو لا يتحدث عن الحاجة الملحة لإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ولا عن العنصرية الجديدة التي افرزت بطبيعتها هذه الممارسات المستفزة القاذمة علي ازدواجيه الأحكام والمعايير .. ولا عن مشكلات الفقر والتخلف في العالم.
ولا عن مشكلات الهجرات غير المشروعة العابرة للحدود القومية للدول.
ولا عن الإرهاب الدولي ودور المجتمع الدولي في هزيمته .. ولا عن الفجوة الرقمية بين فئتي الدول المتقدمة والمتخلفة ودور امريكا في ردمها او في تجسيرها.
ولا ولا مما كان يجب ان يكون حاضرا بقوة علي أجندته الدولية في
مثل هذه الظروف الدولية العصيبة والخطيرة وفي عالم يمتلئ بالحروب والصراعات والأزمات التي تدمره وتفتك به .. فعن اي سلام دولي حقيقي جاء الرئيس ترامب إلي البيت الأبيض هذه المرة ليحدثنا عنه.؟
يمكنه ان يتحدث عن اي شيئ آخر إلا عن السلام والإستقرار الذي تتضاءل فرصه كما لم يحدث من قبل.