الحركية وتكوين الصورة المرئية فى دعاء الكروان

بقلم : د . ندى طارق 

 

 

 تكمن وظيفة الفن الحركي في انتقال مفاهيم ورسائل الفنان للجمهور عن طريق لمس مشاعرهم، وقد بدلت هذه الفلسفة تماماً عبر التاريخ، حيث صنعت التكنولوجيا الابهار في العروض المسرحية، كما يمكن استخدام التكنولوجيا لإحياء القصص الشعبية والأغاني التراثية بطرق تفاعلية وجذابة، مما ساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية، إذ أن هذا التقدم التكنولوجي يعتمد على الحركة والتفاعل لإيصال رسائل ثقافية وفنية بطرق مبتكرة، ويشمل منحوتات ميكانيكية ولوحات تبدو متحركة.

 

    يلعب المسرح دورًا حيويًا في تقديم التراث الشعبي بطريقة تتماشى مع تكوين الشباب النفسي والمزاجي، مما يعزز انتمائهم الثقافي، وقد اختلفت الفنون التقليدية حيث كانت المعلومات في اتجاه واحد من الفنان للمشاهد، وعلى هذا فالأعمال التفاعلية أتاح للمعلومات أن تعود مرة أخرى من الجمهور للفنان ومن الفنان للجمهور، أي في الإتجاهين، وقد تطور الفن الحركي في العروض المسرحية مما يعزز الجانب الحسي والبصري والعقلي، وهدف إلى تحقيق الحركة الفعلية من خلال فلسفة الفن الحركي، فالفن الحركي أثر في الفن التفاعلي ليتطور ويكون أكثر بساطة في بعض الأحيان، فيتفاعل المشاهد مع العمل بواسطة الضغط على زر مثل تكنولوجيا تحويل الصور، ومن ثم يعتمد على الراسل وهو الفنان في العرض المسرحي، إلى المرسل إليه الجمهور المتفاعل مع العرض المسرحي، فالفن التفاعلي وسيط له القدرة على التعبير عن الذات.

 

وإذا تأملنا تراثنا الشعبي المصري سنجده زاخرًا بکل جوانب الإبداع الفني المرتبط بعاداتنا وتقاليدنا وإحتفالاتنا ومناسبات حياتنا، ولذلك يجب علينا الاهتمام به وحمايته والحفاظ عليه لأنه يحمل قيم فکرية وجمالية وخصائص قومية صنعها مجتمعنا المصري على مر الزمن والتاريخ، وحينما نسعى إلى تنميته وتطويره فإنما نسعى إلى الکشف عن محاولات جديدة لإلهام أصيل يسهم في التکوين المعرفي والإدراك القيمي للأجيال الشابة الحالية، وما يليها من أجيال، وعندما تفکر في کيفية الاستفادة من العناصر الفنية والابداعية التي يضمها تراثنا الشعبي في مواجهة المخاطر الثقافية والفنية التي تجلبها التكنولوجيا وتؤثر بالسلب على ثقافتنا وهويتنا،

 

نجد أن المسرح هو الإختيار الأفضل في توظيف موضوعات من التراث الشعبي، بشکل يتناسب مع ظروف العصر الحالي، ويتوافق مع التکوين النفسي والمزاجي للمشاهد، وبخاصة الشباب، لرسم المثل الأعلى للشباب، ويفضل أن يکون کل المشاركين في العملية الفنية من الأجيال الشابة التي تملک موهبة، وفى حاجة إلى تأكيد ذاتها وتأكيد انتمائها لأوطانها، وحماية الثقافة والهوية،کما لا نغفل أن المسرح فن قائم على الإبداع التخيلي ذات الإتصال المباشر، ويجذب الجمهور مهما کانت مكانتهم الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، إذ إنه فن مؤثر على التفکير عن طريق الصورة کوسيلة للتعبير، وإرسال القيمة الفکرية والجمالية.

 

نجد أن التجربة المسرحية الفنية الناجحة تمثل دور الفنون البصرية في تدعيم القيم المجتمعية، والحفاظ على الهوية، من خلال العرض المسرحي (دعاء الكروان) المأخوذ من الفيلم ورواية الكاتب (طه حسين) المعروفة بنفس الاسم، وهو من أشهر الأفلام القديمة، التي تمثل جانب هام من تراثنا المصري الأصيل.

 

يعد العرض المسرحي (دعاء الكروان) عمل فني مميز يجمع بين الأدب الكلاسيكي والفن المسرحي الحديث، وهو مقتبس من رواية الأديب (طه حسين) صدر عام 1959، يطرح العرض قصة الفتاة الريفية (آمنة) وصراعها الداخلي بين الانتقام والحب بعد مقتل أختها (هنادي) على يد خالها بسبب اعتداء (مهندس الري) عليها.

 

إن إعداد الرواية لتناسب العرض المسرحي تطلب التركيز على العناصر البصرية والحركية، لتعزيز تأثير القصة على الجمهور، لذا يمكن استخدام تقنيات الفن الحركي لإضافة بعد ديناميكي للأحداث، مما يجعلها أكثر تفاعلية وجاذبية للمشاهدين، نجح الاعداد في خلق صراع متصاعد من خلال أحداث مركبة تتناول مصير الشخصيات، وقادرة في الوقت ذاته على الكشف عن لحظات التحول في الشخصيات.

 

لعب الحوار في العرض دور محوري، فجمل (طه حسين) قصيرة وسردية مما يسهم في زيادة الإيقاع، علاوة علىاستخدام الأداء الحركي في الحوار وتوظيفه داخل الشجن، إذ قد قام بإثراء الدلالات، وأيضًا استخدام المناجاة كان فاعلًا داخل العمل، مما أعطى المشاهد شعورًا بسمات وصفات كل شخصية في العرض، كاشفًا عما يدور في أعماق كل شخصية من أفكار وأحاسيس.

 

الأصوات التمثيلية والمؤثرات الصوتية في العرض المسرحي (دعاء الكروان) لعبت دورًا حيويًا في تعزيز الأجواء الدرامية وإبراز الشخصيات واختيار الأصوات، سواء كانت أصوات الممثلات أو المؤثرات الصوتية، ساهم في تشكيل النبرة المسرحية وإضفاء طابع موسيقي وجمالي خاص على العرض.

 

استخدام الصوت كعنصر موسيقي معنوي وجمالي يعكس الحس والتصميم الموسيقي لأبعاد الشخصية، مما يعزز من تأثير الأداء التمثيلي، صوت الكروان الذي كان بمثابة البطل الخفي، أضفى بعدًا عاطفيًا عميقًا على العرض، حيث كان صوته يعبر عن الشجن والدموع والحسرة والاستنجاد، مما أضاف طبقة إضافية من العمق العاطفي للمسرحية.

 

تصميم الديكور في العرض المسرحي (دعاء الكروان) يعكس براعة المصمم (أحمد جمال) في استخدام الفن الحركي، والتقنيات التكنولوجية الحديثة من خلال تجسيد الحركة التجريبية، والإيحاء بتكبير وتصغير الإكسسوارات بحرفية وإتقان، استطاع المصمم أن يخلق تأثيرات بصرية مدهشة باستخدام تقنيات الخداع البصري.

 

رغم أن الديكور كان ثابتًا، إلا أن استغلال مساحة خشبة المسرح بشكل متقن، أضفى على العرض ملمحًا كلاسيكيًا بأسلوب تعبيري. كما أن استخدام تقنيات الخداع البصري، مثل عمل (السيلويت) في عمق المسرح، جذب الأنظار وأضفى بعدًا ديناميكيًا حركيًا على المشاهد، مما يعزز من تأثير القصة على الجمهور، فالتقنيات التكنولوجية الحديثة في العروض المسرحية تلعب دورًا حيويًا في إضفاء الحيوية والديناميكية على الأداء، مما يجعل العرض أكثر تفاعلية وجاذبية. 

 

تصميم الأزياء والمكياج والإكسسوارات في العرض المسرحي (دعاء الكروان) يعكس فلسفة العرض بشكل متكامل، مصممة الأزياء (أميرة صابر) نجحت في إستلهام تفاصيل الأزياء من الهوية المصرية الريفية، مما أضفى على الشخصيات طابعًا أصيلًا ومعبرًا عن قيم ومعاني جمالية، فعلى سبيل المثال، ارتدت (هنادي) فستانًا مشجرًا بألوان مبهجة يغلبها اللون اللبني، مما يعكس نقاء وسذاجة شخصيتها، إذ أن الأزياء لم تكن مجرد ملابس، بل حملت شفرات وإشارات دلالية معاصرة من خلال استخدام اللون والخط والملمس، مما ساهم في التعبير عن دوافع الشخصيات وأفعالها، هذا التحليل الدقيق للشخصيات وفق الرؤية الفلسفية للمخرج ومصممة الأزياء أضاف عمقًا للصراع بين شخصيات العمل.

 

لعب المكياج دورًا هامًا في إيضاح ملامح الشخصيات، لإبراز ملامح الشخصية الحياتية بشكل مقنع، الإكسسوارات جاءت مكملة للتشكيل البصري للعرض، معبرة عن الجو العام للمسرحية وأسلوبها، التعبيرات الحركية في العرض أضافت قيمًا جمالية ومعاني تأويلية، حيث حولت اللغة اللفظية إلى لغة حركية تعبر عن المشهد والمعنى، استخدام الحركات المتنوعة لخدمة الدراما وتكاملها مع العناصر الأخرى للعرض، حيث خلق حالة جمالية متكاملة، مما ساعد في تعرية المجتمع وإبراز الصراع الدرامي للأحداث.

 

خلق المخرج فضاءً مسرحيًا يعكس الهوية الثقافية الريفية بشكل متقن، مما أتاح للشخصيات التحرك داخله بحرية وتفاعل، الوصف المكاني الذي ينبع من الوظيفة العملية أو المعنوية لمفردات الفضاء المسرحي كان له دور كبير في تعزيز الإنفعالات الداخلية للشخصيات وتطورها.

 

الفضاء المسرحي لم يكن مجرد خلفية للأحداث، بل كان عنصرًا فعالًا في الكشف عن بنية الفضاء المكاني والحالة الإنفعالية للشخصيات، هذا الفضاء ساهم في التحول الداخلي للشخصيات، مما أضاف عمقًا إلى العرض وأبرز الصراع الدرامي بشكل أكثر وضوحًا.

 

الرؤية الإخراجية في عرض (دعاء الكروان) تميزت بتعدد القراءات والرمزية والتجريد، مما أتاح للمتلقي فرصة الإبحار في معاني العرض بشكل شخصي، وتوظيف الشخصيات بشكل فكري وإبداعي أضاف عمقًا جديدًا للعرض، مما جعله قراءة إبداعية جديدة لموضوع عايشه ذات المتلقى.

 

الرمزية في الموسيقى والديكور والضوء والأزياء والرقص التعبيري أثرت في تداولية الموضوع على مستوى الدال والمدلول، مما أضاف بعدًا فلسفيًا وجماليًا للعرض، مع قدرة المخرج على خلق التغيير والتطور في النص من خلال الشفرة الإخراجية أضفت خصوصية وروحًا مميزة للعرض، ومساحة أداء الشخصية في العرض تميزت بمراجعة التكوين العام والتواصل مع نظام العرض الصوتي والبصري، مما أكد العلاقة بين المشاهد والشخصية والجانب الداخلي لها، التعايش بين مكانين وأزمنة متغيرة في العرض، مما ساهم في التعبير عن الحركات المقدرة بشكل كامل، وأضاف وضوحًا للفضاء الدرامي، وكشف الفضاء النفسي والإجتماعي للشخصيات.

 

التغييرات في الفضاء المكاني أدت إلى النقاط الحاسمة للمنحنى الدرامي، مما أثر في الحوار وتكوين، وظائفه اللغوية والدرامية، كما ربط المخرج المساحة الدرامية بالأحداث، وأفعال الشخصيات أعطى تناسقًا للنص واللعب والمعنى، مما ساعد في بناء الخطاب الدرامي في الفضاء التفاعلي.

 

 العرض المسرحي (دعاء الكروان) يمثل نقلة نوعية في المسرح المصري من خلال دمج الفن الحركي مع التقنيات التكنولوجية الحديثة، هذا الدمج لم يقتصر فقط على تقديم تجربة بصرية وسمعية ممتعة، بل أيضًا على تعزيز الهوية الثقافية وتقديم رسائل أخلاقية بشكل غير مباشر، كما التزام العرض بالتقنيات الحديثة ساهم في تقديم الثقافة والإمتاع والنصح والحكمة، مما جعله نموذجًا يحتذى به في المسرح المصري، هذا النهج يعزز من قدرة المسرح على التأثير الإيجابي في وجدان وعقل الجمهور، ويؤكد على أهمية التفاعل الحي مع فنون المسرح في مواجهة التأثيرات السلبية.

Related Posts

تحقيق صحفي بعنوان: “السماء جفت… والصعيد ينتظر الغيث: أزمة المطر في جنوب مصر وأسرار الغياب

بقلم أسامة محمود      المقدمة:     لم تكن السماء يومًا بخيلة على أرض الكنانة، فقد عُرفت مصر عبر تاريخها بأنها “هبة النيل والمطر”، لكن السنوات الأخيرة حملت تغيرًا…

احمد حسن يكتب “بين صرخة وفرحة”

    فى ظل الصمت التام للعالم لما يحدث فى قطاع غزة من إبادة وتجويع وتهجير من الاحتلال الصهيوني نتصدم من حصيلة زيارة ترامب الى دول الخليج والتى بلغت 2…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *