
د.محمد الطربيلي
في عالم متسارع الخطى، لم يعد الإنسان يقف في مركز المعرفة أو محور الاهتمام بوصفه كائنًا ذا عمق وجودي أو حاملًا لمشروع فكري أو إنساني، بل أصبح مادة استهلاكية بحد ذاته، تُختصر قيمته في مدى قابليته للانتشار على منصات التواصل الاجتماعي. لم يعد لوجود الإنسان معنى مستقل عن “الترند”، ولا لصوته صدى إن لم يُسجَّل أو يُبث أو يُعاد تدويره. فبين لقطة عابرة وفيديو عاطفي وبين صراخ المواقف المتصنعة أو الهزل المتعمد، صار الإنسان سلعة رقمية تُستَهلك كما تُستهلك الأخبار العاجلة، وتُنسى بالسرعة نفسها التي انتشرت بها. في هذا السياق، لم تعد الشهرة مرتبطة بالإبداع أو العطاء الحقيقي أو حتى القيمة الأخلاقية أو الفكرية، بل غدت تُصنَع وتُفبرَك ويُعاد إنتاجها وفق منطق المنصة لا منطق الإنسان. المنصات اليوم لا تبحث عن العمق بل عن الطرافة، لا تسعى خلف الحكمة بل خلف ما يُدهش للحظة ثم يتبخر، ومن هنا نشأت طبقة جديدة من “النجوم الرقميين” الذين لا يملكون سوى القدرة على اجتذاب النظر لا الفكر، والذين لا يعوَّل على تجربتهم في بناء وعي أو تحريك ضمير جمعي، بل هم في الغالب أدوات تم توظيفها من قبل خوارزميات تعرف جيدًا أن الجمهور لم يعد يبحث عن المعنى بل عن المُتعة اللحظية.
لقد تحوّل الإنسان في العصر الرقمي من كائن منتج للمعنى إلى مستهلك للمشاهد، وأصبح كل ما يفعله قابلاً للتسجيل والتوثيق والبث. لم تعد المشاعر الحقيقية، كالحزن أو الفرح أو الدهشة أو حتى الموت، بعيدة عن قبضة الكاميرا، بل صار من الطبيعي أن ترى أحدهم يوثّق لحظة فقده لأحد أحبّته وهو يتحدث بدموع مصطنعة وعبارات مُعدّة سلفًا لجمهور افتراضي لا يعرفه ولا يعنيه. هذا الانتقال من الفعل الإنساني النقي إلى الفعل المصوّر لأجل الجمهور يشير إلى خلل خطير في المنظومة القيمية، ويطرح سؤالًا جوهريًا: هل ما نفعله اليوم نابع من دوافعنا الذاتية، أم مما يتوقعه الآخرون منّا لننال تصفيقهم الافتراضي؟ في ظل هذه الحالة، يصبح الإنسان مرتهنًا لـ”عدد الإعجابات” و”معدلات التفاعل”، ويُقاس نجاحه لا بما أنجزه أو قدّمه، بل بما تم تداوله عنه. ومن هنا فإن كثيرًا من الناس، لا سيما الشباب، باتوا يخوضون معارك يومية من أجل أن يكونوا مرئيين، لا من أجل أن يكونوا مؤثرين بحق، والفرق بين الرؤية والتأثير فرق جوهري؛ فالأولى لحظية وسطحية، والثانية ممتدة وذات أثر عميق.
ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة أن الشهرة لم تعد تتطلب سببًا، بل أصبحت هدفًا في حد ذاتها. لم تعد تُمنَح للمجتهدين أو للمبدعين أو حتى لأصحاب التجارب الملهمة، بل أضحت تُشترى وتُستدرج وتُبرمج، وأحيانًا تُنتَزع عبر فضيحة أو سقطة أخلاقية. بل إن السوق الرقمي أصبح يتغذى على السقوط أكثر مما يتغذى على الصعود، وعلى الهشاشة أكثر مما يُعلي من البناء. فمن كان بالأمس مجهولًا، قد يصبح اليوم نجمًا فقط لأنه أثار سخرية الناس أو استفز عاطفتهم أو مارس تصرفًا خارجًا عن المألوف، لكنه في النهاية سيُنسى تمامًا كما تلاشى غيره من “الترندات البشرية” التي ملأت الشاشات يومًا ثم اختفت دون أثر.
ومن هنا فإن سرعة النسيان باتت هي القانون الأوحد في زمن السوشيال ميديا. الجمهور لا يحتفظ بذاكرة طويلة، ولا يمنح الولاء إلا للّحظة. وما إن يعتاد صورة حتى يبحث عن صورة أخرى. وما إن يملّ قصة حتى يطالب بغيرها. في هذا السياق، تبدو الشهرة الرقمية وهمًا كبيرًا، إذ أنها لا تمنح الأمان، ولا تبني مسيرة، بل تترك صاحبها دائم القلق، في بحث محموم عن مزيد من الظهور، ولو على حساب نفسه أو قيمه أو خصوصيته. ويعيش كثير من هؤلاء “المؤثرين” في فخ المقارنة الدائمة، وتحت ضغط الخوف من التراجع أو الانطفاء، ما يخلق بيئة خصبة للاضطرابات النفسية، والعزلة الاجتماعية، بل وقد يقود أحيانًا إلى انهيارات حقيقية حين يكتشف الإنسان أن كل ما بناه لم يكن إلا زوبعة في فنجان، تلاشت حين توقفت الخوارزمية عن الترويج له.
وما يجب أن يُقال بوضوح هو أن المنصات لا تهتم بالإنسان بل بالمحتوى، ولا تعنيها قيمة ما يُنشر بقدر ما يعنيها مدى قابليته للانتشار. المنصة لا تعرف الرحمة، ولا تحفظ الجميل، ولا تبني على ما سبق، بل تحرق القديم لتحتفي بالجديد، وتستهلك الإنسان كما تستهلك أي مادة إعلانية. ولذلك، فإن من يربط هويته أو كيانه الشخصي بمكانته على تلك المنصات إنما يسلم روحه لكيان افتراضي لا يعترف به إذا غاب، ولا يسنده إذا تعثر.
ولعل العودة إلى المعنى هي ما نحتاجه اليوم. فالمجتمع الذي يربّي أبناءه على أن يكونوا “مشاهير” بدل أن يكونوا “عظماء”، هو مجتمع يُؤسس للهشاشة والفراغ. والإنسان الذي لا يرى ذاته إلا في مرآة الآخرين، يفقد بوصلة ذاته، ويتيه في دوامة من المقارنات القاتلة. ولذلك، فإن الحاجة إلى خطاب جديد يعيد للإنسان عمقه وكرامته وقيمته، أصبحت ضرورة حضارية وثقافية، لا ترفًا فكريًا. نحن بحاجة إلى استعادة فكرة الإنسان كمشروع حياة، لا كمادة ترند، إلى إعادة الاعتبار للتجارب العميقة لا اللحظات المصورة، إلى بناء ذاكرة جماعية تعترف بالبناء لا بالفرقعات، وتعلي من الإنسان لا من صورته.