
بقلم : محمد جمال الدين
في ظل التغيرات المتسارعة التي فرضها عصر السوشيال ميديا، وما نتج عنها من هيمنة شبه كاملة للوسائط البصرية الرقمية على إدراك الجمهور، بدأت فئة من المخرجين المسرحيين في اللجوء إلى ما يُعرف بـ”الفضاءات المغايرة” كوسيلة فنية لإعادة تشكيل العلاقة بين المتلقي والعرض، عبر خلق مساحات جديدة للتجربة المسرحية تكون أكثر قربًا من الواقع وأعمق من مجرد التلقي العابر.
وتُعد الفضاءات المغايرة مساحات غير تقليدية للعروض المسرحية، تتخطى الجدران الكلاسيكية للخشبة، وتذهب نحو أماكن غير مألوفة مثل المصانع المهجورة، الأزقة، الساحات، والهدف من هذا التوجه لا يقتصر على التجريب الشكلي، بل هو محاولة حقيقية لإعادة صياغة العلاقة التفاعلية بين الممثل والجمهور، وتفكيك النمط المعتاد للتلقي، في وقت أصبح فيه الجمهور رهينة للصور الجاهزة والقصص المختزلة على تطبيقات مثل “تيك توك” و”إنستغرام”.
وتسعى الفضاءات المغايرة إلى استعادة المتلقي ككائن متفاعل كأحد أهم أهدافها، عبر إدماجه داخل الفعل المسرحي، سواء عبر الحركة المشتركة أو التلقي الدائري أو الكسر الواعي للجدار الرابع، إذ أنها بمثابة مساحات مقاومة لسطوة البث الحي، ولمشهد رقمي اختزل الفنون في “ريل” مدته 30 ثانية، إنها باختصار محاولة لاستعادة “طقسية المسرح” وروح اللقاء الحي.
لكن … هل يدرك الجميع ماهية الفضاء المغاير؟، فبالرغم من عمق الفكرة وثرائها، إلا أن الواقع يكشف عن تشويهٍ كبيرٍ للمصطلح في مسرح الثقافة الجماهيرية، فنتيجة لنقص الخبرة العملية والعلمية لدى عدد كبير من القائمين عليه، مع سيطرة الشللية، وتهميش الكفاءات الحقيقية، إذ تم الإعلان عن تنظيم مهرجان كاملة تحت عنوان “الفضاءات المغايرة” دون أدنى وعي علمي أو تنظيري بطبيعة هذا المفهوم أو خلفياته الجمالية.
بل إن كثيرًا من العروض المشاركة في هذا المهرجان، لن تجد بها أى انتهاج لأساليب فنية أو اخراجية تتطلبها تلك النوعية من العروض والتجارب، بل لا يحمل أصحاب تلك التجارب أدنى مؤهل فني أو إخراجي لتقديم تجربة ضمن هذا السياق، مما يجعل تلك المهرجانات أشبه بـديكور تنظيمي شكلي يحمل مسمى حداثيًا فارغًا من مضمونه الفلسفي والفني، إنها حالة من “الاستسهال المؤسسي” التي تنسف الفكرة من جذورها، وتُحول المصطلحات المسرحية العميقة إلى مجرد يافطات للزينة الإعلامية.
هذا الاتجاه المسرحي لا يُطبق عشوائيًا، ولا يُفترض أن يكون بيد من لا يملك الوعي بأبعاده، إذ أن الفضاءات المغايرة تتطلب وعياً نظرياً وفنياً عميقاً بطبيعة الفضاء، دلالاته، علاقته بالنص، وبالجمهور، إذ لا يمكن تقديم عرض في شارع أو رصيف فقط لمجرد كسر القالب، بل لا بد من مبرر جمالي ودرامي قوي لهذا الاختيار.
ورغم الزخم الذي تصنعه عروض مسرح الثقافة الجماهيرية في مثل تلك المهرجانات، إلا أن التجربة الفنية الحقيقية غالبًا ما تكون غائبة، حيث تتحول هذه العروض إلى فقاعات شكلية، تعتمد على الفضاء المغاير كديكور مبتكر فقط، لا كعنصر فني فاعل، وذلك بسبب ابتعاد المؤسسة عن احتضان الفنان الحقيقي، وتضع إدارة الأمور في يد أنصاف المبدعين وعديمي التكوين الأكاديمي، لتصبح النتيجة مهرجانات رنانة بلا محتوى، ومصطلحات كبيرة تُستخدم دون إدراك لثقلها الفلسفي.
إن الفرق جوهري بين مخرج يوظف الفضاء بوصفه جزءًا من الرؤية الإخراجية، وآخر يستخدمه لمجرد إبهار بصري، فالعرض الذي يُقام في مكان مهجور دون وعي بتاريخه، أو رمزيته، أو أثره النفسي، يتحول إلى نسخة مشوهة من التجريب المسرحي، إذ أن المسرح في جوهره ليس مكانًا، بل حالة وجود بين الإنسان والإنسان، والمكان ما هو إلا وسيط لهذه العلاقة.
ففي عالم يضج بالضوضاء الرقمية، تصبح الفضاءات المغايرة محاولة نبيلة لإستعادة الطقس المسرحي، ذاك اللقاء الحميمي والمباشر بين الفنان والجمهور، لكنها تظل أداة لا غاية، وسلاحًا لا شعارًا، وحين يفهمها المخرجون والقائمين على مسرح الثقافة الجماهيرية بهذا الشكل، يصبح المسرح قادرًا من جديد على الوقوف في مواجهة الشاشة، لا بوصفه بديلًا، بل بوصفه تجربة لا يمكن نسخها أو تكرارها.