
بقلم : محمد جمال الدين
لم يكن مسرح الثقافة الجماهيرية يومًا مجرد خشبة تُعرض عليها العروض المسرحية فحسب، بل كان منصة ثقافية وتنويرية، يُعوَّل عليها في تشكيل الوعي، وتنمية الذائقة الفنية لدى الجمهور، خصوصًا في المناطق النائية والمهمشة ثقافيًا، إذ مثّل هذا المسرح في فترة من الفترات نبض الشارع، وصوت المهمشين، ورسالة الفن الهادف في أبهى صوره. إلا أن هذا الدور قد تراجع بشكل مؤسف، بل وصل إلى حافة الانهيار، ولم يكن السبب فنيًا أو ماديًا فقط، بل إداريًا في المقام الأول.
تكمن الكارثة الكبرى في أن قيادة هذا الكيان الثقافي الهام قد آلَت إلى شخصيات لا تمتلك من أدوات القيادة شيئًا، لا من حيث المؤهل العلمي المتخصص، ولا من حيث الرؤية أو الفهم لطبيعة المسرح ودوره، قيادات جاءت في غالبيتها نتيجة مصالح شخصية بحتة، لا ترى في الثقافة سوى وسيلة لتعزيز نفوذها وتصفية حساباتها، لا مصلحة عامة ولا رؤية تنموية، مع تغيب الكفاءة لصالح العلاقات، وتجاهل أصحاب الفكر والرؤية لصالح أصحاب الولاء والطاعة، فتُمنح المناصب لمن لا يفقهون من المسرح إلا اسمه، ويُقصى أصحاب المواهب الحقيقية، ويُحاصر المفكرون، ويُهمّش المبدعون، ليبقى المسرح بلا روح، بلا فكر، بلا خطة، وبلا مستقبل.
يعلم القاصى والدانى أن الحماسة وحدها لا تكفي لقيادة كيان ثقافي بحجم وأهمية مسرح الثقافة الجماهيرية، بل يلزم امتلاك أدوات القيادة الثقافية، بدءًا من المؤهل الأكاديمي، مرورًا بالخبرة العملية، وليس انتهاءً بالرؤية الاستراتيجية، إلا أن الواقع يقول إن من يتصدرون المشهد اليوم يفتقرون إلى كل ذلك، فلا توجد استراتيجية واضحة للنهوض بالمسرح، ولا خطة لتطوير المواهب، ولا إدراك لطبيعة الجمهور المستهدف، ولا برامج مستدامة، ولا رؤى تربط المسرح بقضايا مجتمعه، كل ما هنالك هو محاولات متكررة لتقديم عروض نمطية ضعيفة المحتوى، لا تلقى قبولًا حتى في أوساط العاملين بالمسرح أنفسهم، ناهيك عن الجمهور.
وربما تكون إحدى أبرز الكوارث التي لحقت بمسرح الثقافة الجماهيرية هي السياسات التي أدت إلى تدمير المواهب الحقيقية، فالمبدع الحقيقي لا يجد مكانًا له في منظومة لا تعترف إلا بالولاء الشخصي، ولا تُقدّر سوى من يرفع شعارات خاوية لخدمة مصالح المسؤول.
لقد غاب المسرح الحقيقي لأن صوته خفت بفعل فاعل، وتمت محاصرته بتعسف إداري، وتهميش متعمد، ليبقى فقط الشكل دون مضمون، الديكور دون الروح، المؤسسة دون رسالة.
لقد تحولت المؤسسة المسرحية فى مسرح الثقافة الجماهيرية إلى ما يشبه الإقطاعية الثقافية، يُديرها من لا يهمهم إلا تأمين مكاسبهم الشخصية، والتمدد في مناصبهم، حتى لو كان الثمن هو تدمير كل ما له علاقة بالثقافة والإبداع، مع تغييب المصلحة العامة عمدًا، وتفريغ المسرح من رسالته التنويرية، واستُخدم كأداة للترضية، لا أكثر.
العودة إلى الدور الحقيقي لمسرح الثقافة الجماهيرية لن يتحقق بالتجميل أو الترميم، بل يستدعي تغييرًا جذريًا في قيادات مسرح الثقافة الجماهيرية، يستبدل فيه أصحاب المصالح بأصحاب الرؤية الواسعة، ويتم فيه اختيار قياداته على أساس الكفاءة، لا الولاء، وعلى أساس المؤهلات المتخصصة، لا العلاقات الشخصية.
وعليه ينبغي أن يتولى زمام الأمور قادة يعرفون المسرح، ويعيشونه، ويؤمنون بدوره، ويملكون الرؤية والخطة والحكمة، قادة يضعون المصلحة العامة فوق كل اعتبار، ويعملون على دعم المواهب الحقيقية، لا دفنها، عندها فقط يمكن أن يعود المسرح إلى جمهوره، ويعود الجمهور إلى المسرح.
إن ما نراه اليوم من انهيار في مسرح الثقافة الجماهيرية ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة طبيعية لسوء إدارة مسرح الثقافة الجماهيرية، لكن الأمل لا يزال ممكنًا، والعودة ليست مستحيلة، إن توافرت الإرادة، وتمت الإطاحة بمن يتاجرون بالثقافة، لصالح من يعيدون لها روحها ومكانتها.
لمزيد من الأخبار تابعوا صفحتنا على الفيس بوك